متابعــــة الأطفـــــال ودمجهـــــم في مجتمعاتهـــــم الجديـــــدة

العدد: 9380

4-7-2019

لقد كانت هذه الحرب ضيفاً ثقيلاً نشر الفوضى في بيوتنا، في نفوسنا، في نفوس أطفالنا، في كل زمان ومكان، حتى أنه لم يعد يخلو أي بيت من جرح سينزف مدى الحياة، الآثار السلبية للحرب موضوع حوارنا مع الاختصاصيين النفسيين والتربويين..

تقول ريم محمد إنّ ظروف الحرب أدت إلى اضطرار آلاف من العائلات إلى النزوح إلى المناطق الأكثر أماناً في ذات مدنهم أو خارجها، وأدى ذلك إلى اضطرارهم إلى العيش المشترك والسكن الجماعي عند أقرباء أو معارف، بحيث تعيش عدة عائلات في مسكن واحد حيث قد يكون بين القاطنين اختلاف في البيئة والعادات، وهذا الاختلاط الاضطراري يؤدي إلى العديد من المشكلات الاجتماعية كما أن التفكير الذاتي والرضا بالقليل من المطالب المهمة له والتي يختفي بعدها الإبداع والتطور الفكري لديه فتكون همومه معلقه بكيفية العيش في هذه الحياة المليئة بالمتناقضات المسببة للصراعات النفسية مولدة لديه ضعف القدرة على الفعل إضافة إلى الركود والعدائية.
ويقول مصطفى أبو شاهين: المهجّرون، وقبل أن يقوموا بفعل النّزوح ونسمّيهم كذلك، هم أفراد عايشوا بمعظمهم أحداثاُ أخلّت بأمنهم الشخصي والمجتمعي، ونزحوا لفترات طويلة نسبيّاً تحت ضغوط نفسيّة، ناجمة عن سوء الأوضاع الأمنيّة والمعيشيّة، وصعوبة تأمين مقوّمات الحياة، ممّا اضطرّهم للخروج من بيئاتهم ومجتمعاتهم التي احتضنتهم، والتي اعتادوا أن يجدوا أمانهم فيها، هذا الخروج القسريّ أضاف لهم، إلى جانب ما عاشوه من يوميّات الحرب الدمويّة، هموماً إضافيّة، ترتبط بالاستقرار في البيئة الجديدة والتأقلم معها وتأمين متطلّبات الحياة الأوّليّة فيها، وهذه العوامل المتراكمة تشكّل خطراً يهدّد صحّتهم النّفسيّة والعقليّة، ويرتبط بشكل سببيّ بحدوث اضطرابات نفسيّة، كالقلق والاكتئاب والخوف والضغوط النّفسيّة على اختلاف درجاتها، والتي تعدّ فئتا النّساء والأطفال أكثر عرضة لها في أوقات الحروب، يضاف إلى ذلك المشكلات الاجتماعيّة التي تفرزها الحرب، ومن ضمنها النّزوح، كالتّسرّب المدرسيّ وعمالة الأطفال، نتيجة قسوة الظّروف وحاجة العائلة لموارد تسدّ احتياجاتها، أو حتّى الزّواج المبكر، ولعلّ التّفكّك الأسريّ وضعف العلاقات الأسريّة من أبسط الآثار السّلبيّة التي يمكن أن تنجم عن النّزوح.

* ماذا عن الأطفال؟
تؤكد غزل يونس ضرورة متابعة هؤلاء الأطفال ومحاولة دمجهم بالمجتمع الجديد والتأقلم عليه من خلال مرافقتهم إلى الحديقة ومساعدتهم في التعرف على أصدقاء جدد وإعطائهم الوقت الكافي، أيضاً لا بأس من الرجوع إلى المدرس لدوره الهام في انسجام الطفل في المدرسة ولحسن الحظ أن الأطفال أكثر مرونة من الكبار وأكثر قدرة على التشبع بعادات وثقافة المكان الجديد وبالدعم المناسب يبني ذكريات جديدة.
وترى ريم محمد أنه يجب أن نطمئن الأطفال بأن العنف معزول في مناطق معينة، وأنهم لن يتعرضوا للأذى وندعهم يعرفون أننا قد فعلنا كل ما تستطيع للحفاظ على سلامتهم، وهنا يجب أن نكون مستمعين جيداً لهم ونشجعهم على التعبير عن مشاعرهم.
ويقول مصطفى أبو شاهين يركز المدخل النفسي الاجتماعي في مساعدة الأطفال في ظروف الحرب على تأمين بيئة داعمة للطّفل، تلبّي احتياجاته المختلفة، بدءاً من الحاجات الفيزيولوجية وصولاً للحاجات الأعلى كالأمان والحب والانتماء وتحقيق الذات، ضمن برامج تدخل طويلة الأمد، تساعده على تحقيق انطلاقة ناجحة في بيئته الجديدة وارتباطه بها وتعزيز ثقته بنفسه وبالأفراد من حوله، وهذا يتحقق عادةً من خلال تأمين حاضنة لهم في النسيج الاجتماعي وإدماجهم في المؤسسات المجتمعية المختلفة، مع أقرانهم، وبالتعاون مع المنظمات الأهلية والإنسانية التي يمكن أن توفر لهم حاجاتهم تلك من خلال أنشطة وفعاليات تنظمها، فتواصل الطفل مع باقي الأطفال وممارسة الأنشطة معهم، يساعده على الانطلاق، وتجاوز ما مر فيه.
* وفي حال تعرض الأطفال للسخرية من قبل أقرانهم ما هو التصرف الصحيح؟
تقول ريم محمد معظم الأطفال يعودون إلى طبيعتهم المعتادة بعد فترة من الأزمة فيجب مراقبة النزاعات مع الأصدقاء وفي حال تعرض الطفل للسخرية من الأقران يجب مناقشة الطفل حول ذلك ومناقشة أقرانه لنصل لإرضاء الطرفين وتقوية العلاقة بينهما وعدم التعرض للموقف لاحقاً.
ويرى مصطفى أبو شاهين من نافلة القول، قبل الحديث عن السّخرية، أنّ من واجبات المدرسة وباقي المؤسسات ترسيخ روح التسامح والمساواة بين أبنائها، بما يساعدهم على تكوين اتجاهات قائمة على احترام الآخر وتقبله والاعتراف بحقوقه، تبنى عليها سلوكيات مستقبلية مرغوبة، أما في حال وقوع سخرية أو أي شكل من أشكال العنف الأخرى، وهنا سأتحدث داخل المدرسة على سبيل المثال، فيجب على المعلم الحديث إلى طرفي المشكلة، وتوضيح وجه الخطأ في الموقف، مع حث التلميذ المخطئ على تحديد النّتائج التي يمكن أن يؤّدي إليها سلوكه هذا، ومحاولة تبادل الأدوار بينه وبين زميله، بما يدفعه نتيجةً لذلك للاعتذار من زميلهِ بأسلوبه الخاص، إلى جانب مساعدة التلميذ الآخر على تعزيز ثقته بنفسه وتقديره لذاته، ومن ثم استثمار مثل هذه المواقف تعليمياً وتربوياً، وعدم اعتبارها مجرد مواقف عابرة، ولا يغيب عن الذّهن أيضاً ضرورة التواصل مع أولياء الأمور، الذين من الممكن أن يساعدوا في حل هذا النّوع من المشكلات، أو حتى تتبع آثارها في البيت.
وتؤكد غزل يونس أنه يجب فهم سبب السخرية إن كان اللباس أو اللهجة أو.. و بعدها طلب المساعدة من المرشد النفسي أو المعلم في حال حصولها في المدرسة، مع العمل على إزالة التفاصيل تجعله مختلفاً قدر الإمكان.
* كيف يمكن أن نشرح لطفل كان آخر ما رآه حطام بيته الذي تربى فيه؟
تقول ريم محمد وضع الطفل بصورة أنه من الطبيعي أن يشعر بالضيق، وتركه يعبر عن مشاعره وردود فعله بطرق مختلفة، والتأكيد أن الأهم تواجده وأهله معاً وأنه سيكون له بيت آخر جديد أفضل من القديم.
وتؤكد غزل يونس أن شرح التفاصيل يتوقف على عمر الطفل فحتى لو أخبرناه عن دمار المنزل نخبره أننا سنبني أفضل منه، مع العلم أن الأطفال بشكل عام يتعلقون بالأشخاص أكثر من تعلقهم بالمكان، والأهم من هذا هو بث الاطمئنان في نفس الطفل لأن ما يخيف الطفل هو الخوف من الانفجارات أو من فقدان الأهل.
* هل الأشخاص البالغون أكثر قدرة على تحمل ذلك وماهي الآثار السلبية التي يمكن أن تصيبهم؟
تؤكد ريم محمد أن البالغ أشد تحملاً من الطفل في الأزمات لأنه يملك النضج ليفهم الواقع ويعمل على استيعابه والتأقلم معه ولكنه رغم ذلك قد يشعر بالعجز وعدم القدرة على العمل، فيستسلم لوساوس قهرية لديه تتعلق بمستقبله وحياته وحياة من حوله فيكون عاجزاً متأثر بالعديد من الإحباطات والاضطرابات والأمراض النفسية وقد تجر هذه الأمراض النفسية أمراض جسمية عديدة تصيبه.
فيما ترى غزل يونس أنه على الرغم من أن البالغين أكثر قدرة على التحمل إلا أن الأطفال أكثر قدرة على الانسجام، وهذا ما أثبتته الأحداث فالكثير من العائلات ترغب بالعودة بينما يرفض أبنائها ذلك.
* برأي علم النفس من الصحيح أن يرى الأطفال ما يحدث من خلال نشرات الأخبار وغيرها أم نجعله يعلم القليل؟
يقول مصطفى أبو شاهين يفضّل أن يعلموا القليل من الأخبار، فلا نقطعهم عن الواقع من جهة، ولا يغوصوا أكثر مما يناسب عمرهم واهتماماتهم من جهة أخرى، وهذا بالنسبة للخبر كخبر بحد ذاته، أما المشاهد المصورة (أو حتى بعض المقاطع الصوتية) التي يمكن أن تعرضها نشرات الأخبار وغيرها، فهذا يتطلب متابعة من قبل الأهل، لتجنيب طفلهم مثل هذه المشاهد؛ كما تقع أيضاً على عاتق الجهات الإعلامية مسؤولية في ذلك، إذ يجب أن تفرز برامجها حسب الفئات العمرية، وتمنع مشاهد العنف، أو تحذر المشاهد مسبقاً، على أقل تقدير.
وتوافقه الرأي ريم محمد فتقول من الأفضل أن يعلم منك ولو كان قليلاً، فهو كاف حيث يزداد مستوى القلق لدى الطفل عندما يرى أو يسمع مشاهد وقصص مخيفة وهذا ممكن أن يحدث أثناء مشاهدة التلفزيون أو الاستماع إلى أشخاص يتحدثون عن الحرب والأحداث المؤلمة الأخرى، لذا يجب تجنيب الطفل سماع أو رؤية الأخبار مباشرة نظراً لأنها يمكن أن تكون مخيفة جداً وذلك لحماية الأطفال.
فيما ترى غزل يونس أن نشرات الأخبار تحوي مشاهد دامية، والطفل يمتص ويتأثر فيما يشاهده لذلك ليس من المستحسن عرض العنف و القتل بل يجب إخباره بطريقة تحافظ على أمنه الداخلي وشهوره بالحماية والأمان.
* كانت هذه الحرب قاسية لدرجة أنها لم تترك بيتاً إلا ودقت بابه فكيف نشرح لطفل استشهاد أبيه أو أخيه؟
تستبعد ريم محمد إخفاء الحقيقة لأنها تجعل الطفل أكثر قلقاً وتنعدم الثقة لديه أيضاً لذاك لابد من إخباره بالحقائق مع التقليل من التفاصيل إن أمكن لأن هذه التفاصيل قد تربكه ثم نتركه يعبر بعد ذلك عن مشاعره ومع مرور الوقت تتلاشى ردود الفعل القوية على هذه الأحداث.
ويرجع مصطفى أبو شاهين استجابة الطفل للحقائق الصادمة لعدة عوامل، ترتبط بتقرير الحلول لاحقاً، كعمر الطفل، وخبراته السابقة مع الأحداث الصادمة، وإدراكه الشخصي للحدث نفسه، أما عن كيفية التعامل مع الطفل الذي تعرض لمثل هذه الأحداث، فيكون أولاً بإبعاده عن المصدر الرئيس للحدث، إلى جانب مشاركة الكبار خبراتهم حول الحادث مع الطفل (كان حدثاً… وشعرنا…)، فيشعر الطفل بذلك بوجود من يشاركه خبراته في هذا الحدث، دون أن نغفل تشجيعه على التعبير عن مشاعره وخبرته فيه، يمكن أيضاً منحه دمية ليعتني بها، أو إرشاد الأطفال الأكبر سنّاً للعناية بإخوتهم الأصغر سناً، فهذا يمنحهم ثقة بأنفسهم، ويساعدهم على العناية بأنفسهم أيضاً، وهنا أيضاً يلعب تأمين بيئة يجد فيها الطفل الأمان والانتماء دوراً في تخفيف آثار الحادث، والمساهمة في المعافاة السريعة.
كذلك غزل يونس ترى أنه لا مهرب من قول الحقيقة و ذلك للأسف من وجهة نظر علم النفس، فمن الممنوع الكذب على الطفل ولكن يمكن إعطاء تفاصيل تناسب عمر الطفل وقدرته على فهم المعلومات، ويجب أن نبتعد عن إخبار الطفل أن والده أو أخاه ذهب إلى الجنة لأنه سيرغب بالذهاب إليه، ولا نستطيع إخباره أنه في سفر لأنه سيبقى في حالة انتظار سيفقد ثقته بنا، لذا علينا شرح الموت بشكل مبسط أنه عدم القدرة على التكلم والحركة وأن كل شيء في الحياة الإنسان والنبات والحيوان يموت، مع التركيز على أنه لا زال بين أشخاص يحبونه.
* كيف يمكن لزوجة أن تبدأ مسيرة حياتها دون زوج؟
تقول ريم محمد في الأزمات يطرأ على الأسر تغيرات في الأدوار حسب الظرف الذي مرت به من فقدان معيل العائلة وسفره أو عمله بعيداً فتضطر أن تأخذ الزوجة هذا الدور وتبحث عن عمل لتطعم أطفالها حيث أنهم الدافع الأكبر لحياتها وعملها لتأمين حياتهم وبالإمكان طلب المساعدة من الجمعيات الخيرية الموجودة أو المؤسسات الحكومية المعنية لتأمين فرصة للعمل أو بعض المساعدات.
يرى مصطفى أبو شاهين أن المساندة الاجتماعية من كافة الأطراف مفتاح أساسي في ذلك، والهدف هنا هو تجاوز الحدث (الفقد) بأقل الأضرار النفسية والجسدية، وغالباً ما يتم ذلك عبر تجنب الركون للحدث، ومحاولة تجاوزه عبر ممارسة أنشطة مختلفة اجتماعية ومهنية وغير ذلك، في المراحل الأولى يكون لأفراد العائلة والأصدقاء الدور الكبير في مساعدتها على تجاوز الحدث، لذا يكون للحديث معهم أثر مهم، حتى لو كان عن الحدث نفسه (عدم الهرب من الحدث)، كما يلعب وجود الأولاد في هذه المرحلة دوراً يساعد الزوجة على تجاوز الحدث، من جانب آخر، يمكن للأشخاص الذين عانوا من الحدث نفسه تشكيل مجموعة دعم تستهدف الحالات الجديدة، ولا مانع من أن تقوم الزوجة نفسها بدعم أشخاص بنفس الحالة، فهذا يدعمها هي أيضاً، لاحقاً، تتضمن برامج المساعدة كذلك تقديم فرص عمل أو التأهيل المهني، فهذا يساعدها على الانطلاق في الحياة بثقة.
وترى غزل يونس بفقدان الزوج أعباء إضافية تقع على عاتق الزوجة وبالتالي مسؤوليات أكبر لذلك هي بحاجة للوقت والدعم الكبير من الجميع، وقد تحاول اتخاذ قرارات جديدة نظراً لظرفها وهنا علينا الوقوف بجانبها.
* بعد سني الحرب القاسية ماذا نقول لكل شخص نزح لكل شخص فقد عزيزاً؟
لكل شخص نزح تاركاً بيته وذكرياته وحياته ولكل من فقد عزيزاً لاشك أنكم تعرضتم لظروف قاسية ومؤلمة وإن كان هذا الأمر يختلف بحسب درجة الفقد ودرجة التأثر وغابت عنكم لوقت طويل روح المرح والدعابة وارتسمت الكآبة على الوجه إضافة إلى التوترات الانفعالية الغالبة عليكم والتي لن يفيد طول الوقت عليها إلا بمواجهتها والتمسك بإعادة الحياة من جديد ومواساة النفس بشكل ايجابي لأن هذه السلبية في التعامل مع هذا الظرف الطارئ قد تفقدك المزيد ممن حولك ومن صحتك بدون انتباه، عليكم الاتكال على الله وحده ومحاولة النهوض من أزمتكم والبدء من جديد، وفي النهاية لابد من القول إن علاج هؤلاء الأشخاص – بما فيهم الأطفال والبالغين – من الآثار النفسية التي تسببها الحروب مرتبط بانتهاء الحرب أو الأزمة أو على الأقل خروج الشخص منها إلى منطقة آمنة فالعلاج النفسي للآثار النفسية السيئة التي تنجم عن الكوارث والحروب لا يمكن أن يؤتي آثاره إلا في حال كان المريض في حالة يسمح فيها باعتبار أزمته من الماضي.
ويقول مصطفى أبو شاهين نقول: عواطفك ومواقفك موضع تقدير واحترام، ولا توجد قاعدة يمكن أن نفرضها عليك حول كيفية شعورك أو كيفية تعاطيك مع هكذا مواقف، ونحن نتفهمك ونقف بجانبك دائماً، الأمر الذي يهمنا هو سلامتك وعودتك السّريعة لحياتك أنت ومن تحبّ… نحن نحتاجك بجانبنا.
وتختم غزل يونس قائلة لكل شخص ترك منزله نقول المكان الذي تجدون فيه الراحة والعمل هو مكانكم، ومع كل ما خسرتم وخيرنا في هذه الحرب يبقى الإنسان هو الأهم وهو الأقدر على بناء هذا كله.

رنا ياسين غانم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار