نســـاء في دروب الحياة وعلى طرقاتهــا بأســـباب

العدد: 9379

3-7-2019


بعد هذه الحرب النكراء التي استفشر في الناس بلاؤها، وزادت عليهم بأوزارها ورفعت بهم أثقالها، تكاثرت غيوم القهر والأوجاع وتزاحمت الهموم على النساء مدبرات الأمور، كن سيدات بيوت و(ستات) لكنها الحرب طالتهنّ بشرورها ولم يكن منهن أن يسأمن أو ينفذن عن أسباب الحياة، بل السعي في مناكبها بعد أن فقدن المعيل، بحثاً عن عمل ورغيف عيش كريم، وقد تعدى الأمر تفكيرها واخترقه ألف من الأسباب، لترفع يدها بالدعاء والشكر وتمسك عصاها السحرية تطوف بها أزقة وأحياء المدينة، تكنس الدروب وتقطع أشواطاً تمسح عنها غبار رياح محملة بأسباب فقر اشتدت أنفاسها، لتلوح بالأفق البعيد شمس دفء ونظافة وجمال.
المرأة لطالما خاضت في كل مجالات الحياة ولم تتوقف أو تتعثر يوماً في مسيرتها وطرق اختارتها أو وضعتها فيها الحياة وحتى لو سافرت عنها الشهادات العلمية واكتفت بالأدنى منها وخبرة علمتها الحياة والدنيا وغادرت سبل الطمأنينة والأمان دنياها، فما كان في رصيدها غير حاجتها لعمل تتوكأ عليه.
نساء لا يملكن الشهادة ولكن الحياة أكبر معلم لهم، لنجدهن في مكان جديد يلفتن الأنظار، حيث يجبن شوارع المدينة بخجل وحياء، يحملن المكانس لتنظيف المكان الذي هو بحاجة دائمة ومستمرة تحت وطأة الإهمال من الناس والمارة، ونظراتهم المستنكرة ليرموهن ببعض المفردات والألفاظ، فتكون عيونهم معلقة على الأرض ولا تعلو إلا حين إنجاز العمل وانصرافهن للبيت، عمل تختص به الشرائح الأكثر فقراً وهامشية في مجتمع يسمو بنظراته لمراتب رفيعة ويدق أبواب السماء ليحلق ويترك الأرض.
اقتربت منهن ورميت عليهن السلام، وفي وجهي الشكر وعلى فمي بطاقات امتنان، فما يقمن به محال ويأتين عليه لهو معجزة أن ترى مدينتنا نظيفة والجميع من حولنا يرمي بأوزاره وأوساخه من نافذة بيته وسيارته على طول الطريق ومسافات الأيام كما نراها بأكوام عند أصحاب المحلات والكافيتريات والحدائق وحتى أنها طرقت أبواب البنايات، وهو على علم يقين أنه خارج بيته غير مسؤول عن شيء حتى النظافة، وأنه يوجد من ينظف وراءه ويلحق به ليكون له ما يريد، أليس في ذلك جور واستهتار، بل ظلم وتظلم لأنفسنا أولاً؟
كانت نساء الحي سابقاً كل منهن ترش الماء في أطراف دارها ومحيطه وتكنس كما هو الحال داخله، فترى الشوارع والأرصفة والساحات المجاورة والمحيطة نظيفة مشرقة تفتح شهيتهن للتجمع وشرب قهوة الصباح، كما يندفع الأولاد للقفز واللعب، ولم يكن لأحدنا أن يرمي ما بيده بل يحمله في جيبه ليصل به بيته وله أن يرميه في المكان الذي يناسبه فقد يقع عليه العقاب، واليوم نحن غير ملزمين ولا نلفت انتباه أحد فالجميع على الفعل سواء، وليس من قانون يحاسب، لنغط في أكوام من الزبالة نلاقيها بوجهنا قائمة وفارعة حقيقة لا وهم..
كان الله في العون يا قوم، ويا فتيات أليس لديكن عمل غير هذا الذي لا خلاص فيه ولا منه انتهاء!
لم تذكر اسمها بل ردت عليّ بالجواب: هذا هو العمل المتوفر اليوم وقد حصلت عليه بعد جهد وانتظار لشهور وسنين والحمد لله نلت عملاً بعقد ثلاثة أشهر، ولا أظن في الأمر عيباً، بل العيب أن تتسولي وتسألي الناس بما لا طاقة لهم به في هذه الأيام الصعبة العجاف، في هذا العمل أحفظ كرامتي وأؤمن عيش والداي العجوزين، فقد هجرنا من منازلنا في إدلب وسكنا في الدعتور، كنا نعيش بخير وفير من العمل في الأرض والزيتون، وكان موسم الزيتون والزيت يكفينا عيش أكثر من سنة.
لم يطلني أحد بكلام جارح أو يزعجني في الطريق، وصحيح أنها مهنة غير محببة (ولكن شو اللي رماك ع المر غير مر المر) وليست رائجة للفتيات، كما غيرها في شغل البيوت، لكنها أفضل منها وليس لأحد أن يتدخل بأمري.
أم جابر، لم تتذمر أو تستاء فلديها في البيت ثمانية أولاد ينتظرونها دون أب، فقد رحل عنهم وغاب بعد وفاته المفاجئة وكان قد عيشهم برضى وهناء، فقد اشتغلوا جميعهم بالأرض ولقوا فيها كل خير ووفرة، لكنهم تركوها وهجروا منزلهم في كنسبا أثر هذه الحرب البغيضة التي أفسدت عليهم سبل الحياة، لقد تجاوزت بعمرها الخمسين ولا تحمل الشهادات التعليمية فما كان لها وجهة غير أن تعمل بعقد في البلدية وتأتي لعملها في الطريق وعلى الرصيف ولا يحتاج منها مهارة أو خبرة فهي لطالما كنست البيت ونظفته ولا فارق فيه، وقد فضلته على الخدمة في البيوت الذي فيه جور وبعض استعباد.
أحد الشباب من المشاة على رصيف الجامعة استوقفته وسألته هل يمكن لشوارعنا أن تكون نظيفة يوماً وما رأيه بالزبالة اليوم وهل لديه حل واقتراح؟ أجاب: يمكن أن نحظى بالنظافة لدقائق معدودات فبعد ترحيل القمامة من شارع ما يأتي أحدهم ليرمي كيس الزبالة الذي يخصه جانب الحاوية وليس فيها إلا إن كانت ضربته صائبة الهدف، كما أن عمال النظافة يملؤون الشوارع والأحياء يتعبون ويرهقون أنفسهم دون جدوى فما أن يخلص من كنس بقعة حتى يرمي أحدهم بالسجائر ومغلفات الأطعمة والبسكويت، وأيضاً حملات النظافة الكثيرة التي تقوم بها الجمعيات فطالت فيها الشاطئ والغابات والمدارس والأحياء، ينقصنا الوعي وحملات التوعية والتثقيف، وقوانين وعقوبات جادة، أو قانون الضمير والأنا الموجودة في دواخلنا عساها تردنا عن فعلنا الآثم بالبيئة وبأنفسنا وخلق الله.

هدى سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار