العدد: 9280
الثّلاثاء 29-1-2019
(أمينة عبد الجليل علي) ليست أمّاً استثنائية، هي أمثولة وأنموذج للمرأة السورية الحاضرة في الحرب بكلّ جبروتها وقوّتها، تقف وجهاً لوجه مع الحياة والموت، تكاسر القهر والشّقاء والعذاب، تتقاذفها أمواج البحر العاتية لترسو هناك، على تلك الرّابية الخضراء في إحدى قرى ساحلنا الأشمّ، في مكان ليس ببعيد عنّا، قريب منّا لدرجة تخالنا نتعايش وإيّاهم، هي نسخة طبق الأصل لا تشويه فيها، عن مئات إنْ لم نقل آلاف النساء السّوريات الصّامدات الأبيّات، شاءت الأقدار أن تكون أمّي أو أختي أو جدتي أو. . توءمها في الحياة، بعيداً عن شاشة السّينما العملاقة، التي قدمت لنا (أمينة) على مسرح دار الأسد للثقافة في اللاذقية، مع بدء العروض الجماهيرية لباكورة أعمال العملاق أيمن زيدان السينمائية – مخرجاً- هذه القامة والخبرة الفنية الكبيرة قدمت لنا خلاصة تجربتها بعد مسيرةٍ حافلة تركت وتترك بصماتها الخالدة في سِفر الفنّ السّوري الأصيل.
إذاً هي (أمينة) اسم يختصر سيرة حياة وصيرورة بشر وضعتهم الحرب القذرة ندّاً لويلاتها ومآسيها وفواجعها، تُلاطم صفعاتها واحدةً تلو الأخرى، فمن المشهد المهيب لوفاة الأب (أبو سهيل) بكلّ ما فيه من طقوس القداسة وغسل الموتى الذي يتقاطع مع مشهد غسل الأحياء الموتى لـ (سهيل) الذي قام بدوره المخرج الفذّ (جود سعيد) كاشفاً عن مكامن إبداعية جديدة لديه، جسّدها في غير مشهدٍ، فهو البطل الجريح الذي أقعدت الحرب حواسّه عدا (رفّة عينيه) التي بقيت وسيلة التواصل الوحيدة له مع محيطه، ولُغة التفاهم بينه وبين عالمه وناسه المحيطين به الذي تختزله أمّه وأخته سهيلة التي قامت بدورها (لمى بدّور) في تجربة متفرّدة تدفعها خطواتٍ وخطوات إلى مصافِ الدرجة الأولى اسماً وحضوراً، هذه الأخت تكنّ لأخيها حبّاً طاهراً صافياً نقيّاً، تضحّي لمؤازرة الأمّ في صدّ هجمات البؤس والشقاء عليهما، ولدعم أخيها العاجز عن كل شيء إلا عن حبّها وأمّها في ذاك البيت القروي السّاحلي الذي تعانق هامات أهله السّحاب شموخاً وعزَّاً وكبرياءً، نساء سوريات أنصفهن المبدع (أيمن زيدان) حين قدّمهن بصورة تليق بمكانة المرأة السورية الحقيقية المناضلة الصّامدة ليعيد إليها كثيراً من كرامتها التي أهدرتها درامانا التلفزيونية لا سيما في السنوات الأخيرات، فكانت المبدعة (نادين) خير من يجسّد قصة الأمّ السورية بحرفية وعبقرية عاليتين، لامست وجداننا وأبكتنا في غير مشهد، تسلّحت بالأمل وحده فكانت الصابرة تُثقلها متاعب الحياة وتجلدها لكنها تكسر الصّعاب وهي المجبولة على القوة، فكانت اختصاراً لمدرسة الأمّ السورية التي تعدّ رجال الوطن وتكابد البؤس والعناء وهي الفخورة بما تقدم، لتبقى (نادين) الرقم الصعب.
قدّم لنا (أمينة) جوهر الصّراع الأزلي بين اليأس والأمل، محاولاً التقاط هذه الخيوط الخفية التي تنسدل بينهما بعيداً عن جرعات الإحباط ومثبّطات العزيمة، ولعلّ دور (لينا حوارنة) هو من كسر هذا الصراع وحقق نصراً مبيناً للأمل والحلم، ورغبة البقاء.
أما الفنان (حازم زيدان) الذي أسلمه والده الراية (كما قال) يحجز لنفسه مكاناً متصدّراً بين النجوم، فهو الجنديّ البطل العاشق أرضه ووطنه، مع الظهور الخاصّ للمخرج الكبير عبد اللطيف عبد الحميد.
تفاصيل الحياة الريفية وأدواتها حضرت بقوّة في مشاهد الفيلم، وركّز المخرج زيدان كثيراً على إبرازها وقارب مفرداتها لتبدو حقيقية تشبه بيوت العزّ والفخار في كلّ سورية، من مشهد الحصاد والنّورج الذي يدور تارةً مع عقارب وتارةً عكسها كما هي الحياة، إلى التنّور وهو مشروع العمر ورهان الكسب الحلال، إلى السَّرَد، إلى مشاهد استلقاء الأم وابنتها على الأرض مهد الأجداد بعيداً عن الأسرّة الفاخرة.
السينما السورية تستعيد أبجديتها المفقودة في تراجيديا وجدانية روحانية توثيقية اسمها (أمينة) الذي يستمر عرضه على خشبة دار الأسد للثقافة الخامسة مساء حتى نهاية الأسبوع الجاري.
ريم جبيلي