العدد: 9345
13-5-2019
مزيج من مشاعر عزٍ وعنفوان مجدولة مع عطرٍ ونور تنتابنا حين مجالسة أحد قامات الشموخ، وأيقونات الصمود ورجال الله في الأرض هؤلاء الذين حولوا دماءهم وجراحهم إلى تراتيل محبة وأعياد نصر إيماناً منهم بأن الحب كما الحق لا بد أنه منتصر في النهاية.
الجريح البطل جعفر غازي سليمان أحد هؤلاء الأبطال الذي أعطى من روحه وعمره للوطن، وآمن بقدرته رغم جراحه على متابعة العطاء، رافضاً الانحناء لكل صعوبات الحياة، ومصراً على مواجهتها بالوقوف صامداً وجهاً لوجه متحدياً كل أمواجها العاتية بمزيد من العطاء والثبات.
والجريح جعفر سليمان ابن قرية زينون في القرداحة من مواليد 1976 تطوع بالجيش العربي السوري بعد أن حصل على الثانوية العامة، متزوج ولديه ستة أبناء، التقيناه في مطعمه الصغير في القرداحة والذي زينه بلافتة كتب عليها: (إذا لم يكن لديك المال، تناول طعامك مجاناً، فرزقي على الله)
يحدثنا جعفر عن إصابته بكثير من الحزن قائلاً: عندما بدأت هذه الحرب المجنونة كنت أخدم في معرة النعمان في إدلب، وما أحزنني وفاجأني رفاقي هذا الانقلاب الحاصل بعقليات الناس في المنطقة وكيف تحول البعض منهم من أناس بسطاء طيبين إلى ذئاب متوحشة تفترس كل ما تجده في طريقها محولة المكان إلى خراب ولكن لم تطل دهشتنا واستغرابنا حتى عرفنا السبب، فالمال الذي كان يدفع لهم كفيل بنظرهم ليغير عقولهم ونفوسهم واتجاهاتهم ويتابع: حوصرنا في مفرزة أمن الدولة لأكثر من 15 يوماً، كنا في البداية 25 عنصراً ولكن قلة قليلة من ضعاف النفوس تأثروا بالوضع وتركونا وانسحبوا بسلاحهم من الباب الخلفي للمفرزة الذي كان معبر أمان لنا وتحول فيما بعد إلى عبء علينا، وقال: أذكر جيداً يوم الجمعة 10/6/2011 بكل تفصيل صغير وكبير فيه، كنت وزملائي ننظر لبعضنا وفي عيون كلٍ منا ألف قصة وقصة لكننا آثرنا جميعاً وضع الملح على الجرح والصمت والترقب لما سيحدث، خاصة إنه لم يكن أي أثر لأي تواجد أمني أو عسكري في المعرة سوى مفرزتنا وعنصرين من الجنائية انضما إلينا، ولم يكن قد مضى على مجزرة جسر الشغور أكثر من 15 يوماً.
أرواحنا لله وقلوبنا تنبض بقوة، أذكر جيداً كيف انتهت صلاة الجمعة والخطبة وبدأت الأصوات البعيدة تقترب منا رويداً وريداً، حتى أصبحنا كالواقف في وجه السيل جاءت الأصوات وصيحات (الله أكبر) التي جيروها لدعوات شيطانية من الجهات الأربعة للمفرزة تنادي بحرية مزعومة وشعارات زائفة، وانتشروا على محيط المفرزة وكانوا بحدود الـ 3000 شخص، طالبونا بالبداية بتسليم سلاحنا لننجو بأرواحنا على حد زعمهم ولكننا رفضنا مع رئيس القسم رفضاً قاطعاً التسليم والاستسلام وبعد وقت قصير اختفى الصف الأول والثاني من المظاهرة، هؤلاء الذين كانوا يحملون الأعلام الغريبة واللافتات، عندما تأكدوا إن العناصر المسلحة انتشرت على أسطح المباني المحيطة والمطلة على ساحة المفرزة وبدأ إطلاق النار نحو الواحدة ظهراً وتحولت إلى معركة حقيقة حامية الوطيس، أذكر أني كنت وزميلي خلف المترس لم نفكر بالموت للحظة واحدة بل على العكس تماماً كنا نضحك على أشكالهم البربرية الهمجية ولباسهم الذي يدعون إنه لباس الرسول ومناظرهم الغريبة التي لم أرها طيلة خدمتي بالمفرزة والتي تجاوزت الثلاث سنوات كانوا كالهاربين من العصور الجاهلية ولكن بسلاح حديث وقد استطاعوا أن يضربوا طوقاً علينا بعددهم وعتادهم، بل واستطاع البعض منهم أن يدخل من الباب الخلفي للقسم والذي فتحه بعض من كان معنا وخان الوطن، وعندما كان المسلحون يأخذون غرفة من قسمنا المؤلف من سبعة غرف نشعر وكأنهم أخذوا أحد غرف بيتنا ونعمل كل ما في وسعنا لاسترجاعها، استشهد زميلي على كتفي برصاصة قناص واستشهد اثنين آخرين وجُرح ثلاثة من زملائنا وبالمقابل قتلنا وجرحنا عدداً كبيراً منهم، وقد قلّت الذخيرة ولا يوجد أي مجال للإمداد.
في السابعة مساءً جاءتنا تعليمات للخروج من القسم والتجمع بنقطة واحدة في الملعب البلدي لتتم عملية إخلائنا براً أو جواً، تطلب الأمر قطع شارع فيه مسلحون من الجهتين الشرقية والغربية ونحن اتجاهنا جنوباً، ولحظة خروجي وزميلي أصيب فوقع في منتصف الشارع وعندما محاولتي إنقاذه جاءتني رشقة رصاص من مسافة قريبة جاءت برجلي اليمين وفي رقبتي كما أصابت زميلي الذي استشهد على الفور، زحفت ثلاثة أمتار كنت أظنها أطول مسافة أقطعها في حياتي حيث كان الرصاص كزخات المطر، ولكني لم أستطع الوصول إلى نقطة الالتقاء المتفق عليها، وصلت زحفاً إلى عتبة أحد البيوت الغربية وطلبت شربة ماء من صاحب البيت وهو من أبناء المعرة، وقد نظرنا في البداية لبعضنا نظرات ريبة وشك، ولكن إيماني بالله والقدر وأصحاب الخير دفعني للثقة به حتى غبت عن الوعي وسمعتهم وهم يتحدثون عن شدة نزفي وتأزم جراحي حملني الرجل وأدخلني بيته وسقاني الماء، قام مع زوجته التي كانت تعمل ممرضة بإجراء عملية جراحية بسيطة استخرجت من ساقي الرصاص وحبات الخردق المسمومة من الفخذ والركبة والساق وعملت على إيقاف النزيف وترجاني الزوج قائلاً إذا علموا إنني ساعدتك سيعدمونني وزوجتي وأولادي فأيقنت إنه من المستحيل أن أخاطر بأرواحهم ولا بأرواح زملائي ليعودوا ويأخذوني وذهبت بصعوبة بالغة إلى أحد مكاتب السيارات الذي هو أحد الأصدقاء ومن أبناء المعرة أيضاَ بلباس خاص قدمه لي من أنقذ حياتي حتى لا ألفت نظر أحد وطلبت منه مساعدتي للوصول إلى حلب فلم يتوانَ لحظة وأخذني في سرفيس وضع فيه زوجته وأبناءه وأبناء أخيه بعد أن أخذ كل المستندات الدالة على هويتي وخبأهم مع زوجته وطلب مني التظاهر بأني أخرس، وأخ لزوجته عند المرور على حواجز المسلحين وأوصلني إلى أول حاجز للجيش في الزربة جنوب حلب ولم يطمئن حتى سلمني إلى أخي الذي أسعفني مباشرة إلى المشفى العسكري بحلب وبعدها بدأت رحلة علاج طويلة تنقلت فيها من حلب إلى مشفى زاهي أزرق ومشفى تشرين العسكري وقد أكد لي كل الأطباء إن العملية التي أجرتها الممرضة لي أنقذت حياتي ولولاها لتتم بتر رجلي بالكامل وفي مشفى تشرين كان لي شرف مقابلة السيد الرئيس في الأول من أب 2011 أثناء زيارته للجرحى، وبعد ها تم عرضي على مجلس طبي عسكري حيث تم تسريحي من الخدمة بنسبة عجز 50%.
وكنت قد صرفت قسماً كبيراً من تعويضاتي على علاجي الذي امتد لأكثر من سنة وأصبحت أمام تحدٍ آخر وهو تأمين لقمة العيش الشريفة لأسرتي وخاصة إن سكني أيضاً بالآجار حقيقة يجب أن نتأقلم وأن نعمل ونقاتل من جديد ظروفنا ووضعنا الصحي والنفسي بمعنويات عالية تعانق عنان السماء، ففكرت أن أفتح مشروعاً صغيراً نعيش منه، وكانت البداية مع مشروع سمانة صغيرة وبعده افتتحت مطعماً صغيراً أيضاً للسندويش والوجبات البسيطة وانطلاقاً من واقع حياتنا القاسي كتبت لوحة في صدر المطعم أدعوا خلالها من لا يملك المال لتناول طعامه مجاناً فالرزق على الله وحده مراهناً على طبيعة الناس وعلى مبادئهم حيث لا يوجد شر بالمطلق كيف لا وبعض من أهل المعرة أنقذوا حياتي عندما حاصرني الموت من كل صوب وحدب، وأكد جعفر الذي عاد واقفاً شامخاً ليتابع حياته ويبدأ من جديد إن عمله بالتجارة علمه إن الخسارة المادية ليست مشكلة ولكن الخسارة الحقيقة هي خسارة الأخلاق والمبادئ داعياً جميع من لديه القدرة على المساعدة أن يعمم هذه الفكرة ويبادر بها.
ويختم جعفر البطل حديثه قائلاً: خدمت وطني أكثر من 17 عاماً قدمت فيها روحي ودمي وشبابي وكل ما أستطيع ليبقى وطني معافى وسليماً ويصدر العلم والمعرفة والأخلاق إلى كل أصقاع الأرض وحصلت على شهادة تأدية خدمة بدرجة جيد جداً وسأظل أخدمه وأعطيه كما أعطيت سابقاً ما حييت.
سناء ديب