الوحدة: 30-5-2022
قبل أن تركز المجتمعات على تأمين التعليم والمعرفة لأفرادها، كان التوجه و الإجماع العام على أن للتربية دورها الهام في تنشئة جيل جديد يحمل الصفات والسلوكيات الجيدة ويتابع بكل مسؤولية بناء المجتمع وتطويره والنهوض بواقعه نحو الأفضل .. لكن ما نراه اليوم ونلمسه لمس اليد، ونلحظه بجوارحنا قبل أعيننا هو تردي هذه الصفات وانحدارها إلى الدرك الأسفل في سلم أبسط القيم المجتمعية المتحضرة – حتى لا نقول القيم الفطرية التي تربى عليها إنسان الأدغال وابن الطبيعة البكر – وهذا الانحدار يترجمه أبناء هذا الجيل بتصرفات بعيدة كل البعد عن مفهوم الأسرة والمدرسة والشارع، ابتداءً من طريقة كلامهم السوقية وألفاظهم البذيئة مروراً بزيهم المدرسي وغيره من الأزياء والتقليعات الغريبة في لباسهم و أنماط تسريحات شعرهم، وانتهاء بتجاوز كل الخطوط ( الحمراء والملونة والمزركشة…) في التعامل مع كل ما يحيط بهم من جماد وطبيعة بطريقة اللامبالاة وهو أمر نلحظه – على سبيل المثال لا الحصر – في طريقة جلوسهم على المقاعد أو عند تجمعاتهم في الحدائق العامة… ، وكذلك في أسلوب تعاملهم مع من يحيط بهم كالأهل والمدرسين وكبار السن وحتى مع أقرانهم .. ، وهنا طبعاً لا نعمم الحكم على الجميع فمنهم من شق طريقه في الصخر على الرغم من معاناته وظروفه ، ولكن كما يقولون في علم الوراثة فإن الجينات أو الصفات السائدة تطغى على مثيلاتها المتنحية في ظل هذه الظواهر التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من مشاهداتنا اليومية، و بات جلّ ما نخشاه أن تخرب الثمرة العفنة باقي الثمار التي تتواجد معها في نفس الصندوق الذي يحتويهم ويحتضنهم دون التمكن من النجاة والإفلات من مصيرهم المحتوم إن لم تتدخل يد خبيرة وحانية لتفرزهم بعناية عن مصدر هذا العفن الذي يهدد حياتهم وحياة من حولهم.
هي إشارة تنبيه أردنا إيصالها لمن يعنيه الأمر للمراقبة والتبصر والإمعان بهذه الحالات الاجتماعية، والعمل تبعاً لموقع المسؤولية التي يتمتع بها أصحاب الأمر والتصرف بجدية فيما بعد لتدارك الآثار والعواقب التي قد تنتج – وهي حتماً ستنتج – عن هكذا ظواهر تسكن معنا في بيوتنا ومدارسنا وشوارعنا ونوادينا ومؤسساتنا التربوية والتعليمية والاجتماعية.. ولعل من أخطر هذه الطواهر ما رأيناه على أبواب بعض المدارس الخاصة والعامة – بعد انتهاء امتحانات الفصل الأخير للصفوف الانتقالية والمتوقع أن يتكرر هذا المشهد عند الانتهاء من امتحانات الشهادتين للتاسع والثانوية بفروعها – من تمزيق للدفاتر ولكتب المناهج المدرسية ورميها على الأرصفة وبجانب حاويات القمامة التي تتربع على مداخل هذه المدارس.. إذ لم يقتصر أمر التخلص من مصادر معارفهم على فعل الرمي فقط بل تعداه إلى سلوك عدواني وتخريبي يحمل في طياته الكثير من الدلالات والإيحاءات التي تنم عن البيئة الأخلاقية والقيمية لهؤلاء الطلبة والتلاميذ على اختلاف أعمارهم ومراحلهم الدراسية.. وبالتحليل العميق لهذه الدلالات نرى أنها تتعدى حدود فرحتهم بانتهاء عامهم الدراسي الذي قد يكون أثقل كاهلهم نتيجة للظروف الدراسية و المعيشية الاقتصادية القاسية.. والملاحظ أيضاً أنها تتجاوز الاعتبار كواحدة من نتائج السخط والغضب من واجباتهم المدرسية التي لازمتهم طوال عامهم الدراسي… ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها وسيلة من وسائل إثبات الذات والوجود عن طريق هذا السلوك غير الحضاري كنتيجة لحساسية مرحلة المراهقة التي تطبعهم بخصال وصفات خاصة.. إنها ظاهرة تستحق الوقوف عندها مطولاً ومن جهات مجتمعية متعددة، خاصة مع عملية تكرارها وتزايد انتشارها عاماً بعد عام، وهذا إن دل على شيء، فإنما يشير إلى مدى الاستهتار وانعدام المسؤولية عند من يفترض بهم أن يكونوا جيل المستقبل إزاء ما يمثل مصدراً مهماً من مصادر معرفتهم وعلمهم وقيمهم وسلوكياتهم في الحياة. وفي تقديرنا أن هذا الاستهتار سوف ينسحب على باقي تصرفاتهم وطريقة تعاملهم مع المجتمع ككل، بكافة فئاته وأطيافه.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن دور الأهل والمدرسين والمربين على اختلاف مواقعهم، فالواضح أن زمام الأمور قد بدأ بالانفلات شيئاً فشيئاً من أيدينا، خاصة بعد أن تم سحب البساط من تحت أقدامنا من قبل وسائل التقنيات الحديثة بألعابها الفارغة من أي دور فاعل، وبخططها الممنهجة على إفراغ العقول وبرمجتها وفق توجهات سطحية تمحي خصوصية القيم المجتمعية بشكل خاص.
فالانتماء اليوم بات لوسائل التواصل الاجتماعي التي حلت محل الأهل والأصدقاء والمدرسين… ولا نبالغ بالقول أنها أخذت مكان العقول والأدمغة التي كانت الأساس والركيزة لأي عمل يهدف إلى تطور المجتمعات وازدهارها، لذلك أخذت على عاتقها هذه المهمة بتدمير هذه العقول ليكون العالم قرية واحدة تسيطر عليها مصطلحات وتقليعات غريبة – من المؤكد – أنها تقودنا نحو المجهول.
فدوى مقوص