مَن يسعّر.. ومَن يراقب.. ومن يدفع الفاتورة؟

الوحدة 17-11-2020

 

الجواب الوحيد الواضح لدينا هو على الشقّ الأخير من السؤال، وبكثير من الموضوعية فإن الدولة (كمؤسسات) والمواطن العادي هما من يدفعان الفواتير الباهظة، ومع أن الظلم يجمعهما إلا أن التنافر موجود بينهما فما هو السبب؟

لا أجد أي حرج بالدفاع عن مؤسسات الدولة، كبنية ونظام وسياسة عمل وأهداف، فهي (أي المؤسسات) مثالية من حيث الأهداف التي وجدت من أجلها، لكنها ليست كذلك من حيث الأشخاص القائمين عليها، ولأن تعميم أي حكمٍ خاطئ، فإن القسم الأكبر من هذه المؤسسات ساء بسبب القائمين عليها من جهة وعدم وجود التقييمات الحقيقية لأدائها، أو المحاسبة الفعلية للمرتكبين فيها..

لا نحبّ (فركات الأذن) لذلك لن (نكبّر الحجر) حتى لا تسقط على رؤوسنا، وسنضرب مثالاً بسيطاً ومهماً بآن واحد: كيف يُسمح لرئيس جمعية فلاحية أن يكون لديه مخزن لبيع الأسمدة، وكيف لا تتواجد وتتوفر هذه الأسمدة للفلاحين عن طريق الجمعية، بينما هي متوفرة وعلى مدار العام في هذا المستودع؟

ليس كلّ المشكلة هنا، بل تتمتها في أن المزارع أدمن هذا الاحتكار، بل (ويستكثر خير) المحتكرين إن مدّوه بما يريد من أسمدة ولو بأضعاف سعره!

سنعود إلى بعض الجزيئات فيما يخص الإنتاج الزراعي، ولكن دعونا أولاً ننثر بقية أسئلتنا (الساذجة) وإن كانت مكررة!

 

لا نعرف كيف، وتحت أيّ مسمى، يحصل تجار الإسمنت على كلّ هذه الكميات من المادة، ولا كيف يجرؤون على انتظار الزبائن أمام مركز عمران في مدينة ما، ويحاولون إقناعه شراء الإسمنت من عندهم مع أن كل شوال إسمنت فيه زيادة ألف ليرة عن سعره في المركز؟

المسألة لا تحتاج للاتصال على الـ (119) بل هي جريمة موصوفة تتم بوضح النهار وأمام المؤتمنين على توفير هذه المادة للمواطن بالسعر الرسمي، بل ونعتقد أنهم شركاء في هذه التجارة الحرام!

تعقيدات توضع أمام المواطن، وتسهيلات و(إغماضات) بالنسبة للتاجر تتحول إلى فكّي كماشة تجبر المواطن المسكين على الانقياد نحو مصّاصي الدماء بملء إرادته!

ثمن (بيدون الزيت) يعادل راتب شهرين تقريباً، وأصغر عائلة تحتاج بين (3-5 بيدونات) ثمنها نحو نصف مليون ليرة، ووسطي الصافي من راتب أي مواطن في السنة هو حوالي (700-800) ألف ليرة سورية، وبأحسن الأحوال مليون ليرة، فإن ذهب نصف هذا الراتب على الزيت فقط، فماذا تركنا للبيض والبطاطا والبرغل و(الدخان)؟

الزيت منتج محلي 100%، ولم تطرأ تكاليف إضافية على إنتاجه وتوجد كميات كبيرة مخزنة منه، وبالموسم الماضي كان يشكو المزارعون من عدم قدرتهم على تصريف الإنتاج، فما الذي رفع أسعاره خمسة أضعاف؟

نرجو ألا يُفهم كلامنا على أنه (حرب) على المزارعين ومنتجي الزيت، لكن الحكاية غير موضوعية على الإطلاق، وما ساهم في جنون أسعاره هو ارتفاع أسعار الزيوت النباتية والسمون بشكل جنوني، والمسألة (لعبة تجّار) إما لا يستطيع أحد أن يوقفها، أو لا يريد أحد أن يوقفها، أو أن من عليه أن يوقفها شريك بها!

(الله يخزي العين التي ترى ولا تصلي على النبيّ)، أسعار الخضراوات الباكورية توحي بأن من يقبضها سيصبح (ملياردير) و(الشكليات) تقودك إلى هذه النتيجة، ولكن عندما تعلم أن مستلزمات إنتاجها قد ارتفعت (20) ضعفاً، وربما أكثر، ستصدق إن الفلاح يتمنى أن يعود إلى المرحلة التي كان يبيع فيها البندورة بـ (50) ليرة سورية، شرط أن تعود مستلزمات الإنتاج إلى ما كان عليه حينها!

هذه حقيقة مقتنعون بها، وناقشناها مع عدد كبير من المزارعين ولكن إذا ما انتقلنا إلى الضفة الأخرى، ضفة المستهلك، فإن ما يباع في الحقل بـ (ألف) ليرة سورية سيُباع على البسطات وحتى في أسواق (من المنتج إلى المستهلك) المزعومة بـ (1500) ليرة سورية على الأقل فما الحلّ؟

لا أحد يستطيع أن يلغي الحلقات الوسطية مهما تحدث عن ذلك، لأن هذه الحلقات تتكاثر بالانشطار، ولا تحتاج إلى ضوء الشمس كي تنمو، بل أن الظلام بيئة مناسبة لها..

 

في سهل عكار في محافظة طرطوس على سبيل المثال, وحيث التقينا عدداً من المزارعين, وحيث تُزرع مساحات هائلة بـ (البطاطا) كان الإجماع على أن بذار البطاطا (المهرب) من لبنان أفضل بكثير من البذار الذي تستورده مؤسسة إكثار البذار, وإنه يصلح للزراعة في الشهر الأخير من السنة أما الذي تستورده (إكثار البذار) وحتى يحقق هامشاً من الربح فيجب أن تتأخر زراعته إلى شهر شباط, وبالتالي يتأخر جنيه, ويكون السوق قد أُغرق بـ (البطاطا) وبالتالي لا يحصلون على السعر الذي ينتظرونه, لذلك يفضلون البذار المهرب ولو دفعوا أضعاف السعر!

أسعار الحراثة

وجع آخر أضافوه إلى سلسلة شكواهم, وهو أن أجرة حراثة الدونم الواحد كانت (5) آلاف ليرة قبل سنة, أما الآن فهي (10) آلاف ليرة مع أن سعر المازوت لم يتغير..

حجة أصحاب الجرارات الزراعية أن الكميات المخصصة لهم لا تكفيهم وهم (يدبرون حالهم) من هنا وهناك بأسعار جنونية, إضافة إلى ارتفاع أسعار زيت المحرك والإطارات وقطع التبديل وغير ذلك, أما سبب رضوخ الفلاحين لهذه الأسعار فهو قلة عدد الجرارات بشكل ملحوظ, وأن الأرض هي مصدر عيشهم الوحيد, وبالتالي فهم مجبرون على حراثتها مهما كانت الأجرة!

هذه الجزئية أيضاً تختلف من مكان إلى آخر وهو ما ينفي شرعيتها ويستوجب التدخل بها…

في العنوان الرئيسي: من يسعّر.. ومن يراقب، فالجواب هو المزاجية والجشع وأي مصدر سيئ, أما المراقبة فقد تعب ضميرها منذ زمن، وذهبت إلى صف الفاسدين في الجزء الأكبر منها, حتى بات المواطن يائساً في الجهات الأربع!

 من حق المواطن أي مواطن, أن يحكم سلبياً على أجهزة الرقابة والتي يفترض أنها وجدت لحمايته, لكنها على الأرض هي شريكة باستغلاله وابتزازه, وعامل مؤثر في الظلم الذي يعيشه..

بـ (التكافل)

التكافل هو مبدأ عمل الجمعيات الفلاحية التعاونية, ومعنى ذلك أنه إذا كانت أي جمعية مدينة لبعض أعضائها فإن المنفعة ترفع عن الجميع إلى أن يتم تسديد هذا الدين!

الأعضاء التعاونيون يوقعون على هذا التعهد, ولا نوجّه اللوم هنا إلى أحد لكن هل هذا الأمر موضوعي؟

لا يعطى أي عضو في الجمعية براءة ذمة طالما هناك شخص واحد لم يسدّد التزاماته!

هذه أيضاً من النقاط التي وقفنا عليها من مزارعي سهل عكار في طرطوس وتساءلوا: أما من باب للخروج من هذه المعضلة؟

التعويضات والمساعدات

من حيث الفكرة يحييها الفلاحون, لكن من حيث التنفيذ تبقيهم في مواجعهم, وملخص الشكوى أنها لا توزع بالعدل, حتى أن البعض ليس لديه أرض, أو ليس من المتضررين, وحالته المادية جيدة جداً، ومع هذا يحظى بالمساعدات والتعويضات أكثر من غيره, وقدموا بالأسماء مجموعة من الذين نالوا مساعدات زراعية (بذار, شبكات ري, نايلون) وهم ليسوا مزارعين!

لم تتوقف(الآهات) عند هذا الحد, ومع هذا فهم مستمرون بإنتاجهم الزراعي, وهم على الأقل وحسب تعبيرهم, يحافظون على رأس مالهم, ويدورونه من عام إلى تاليه, ولو اقتصر ربحهم على سد حاجيات أسرهم خلال مرحلة الإنتاج والتي تستمر من (6-8) أشهر في السنة…

تجاهلنا الكثير من حديثهم المتعلق بـ (غضب الطبيعة) أو ما يخص حالات الاستغلال الفردية, من قبل أصحاب بيع المستلزمات الزراعية, واكتفينا بالإشارة إلى العناوين المشتركة ونوجز ما تقدم, وما يتوجب فعله بالآتي:

– التجار يتحكمون بكل شيء, من الكفّ الذي يرتديه المزارع إلى الأدوية والمبيدات والآلات وغير ذلك..

– الدولة تخلّت عن دورها في التدخل لصالح الفلاح والذي لا ينتظر(دورات تثقيفية, ولا محاضرات), بل يطالبها بالقيام بدورها وتأمين مستلزمات الإنتاج كلها عن طريق المصارف الزراعية وبأسعار الكلفة مما يوفر عليه الكثير من الأعباء, ويمنحه هامش ربح حقيقياً, يساعده على الاستمرار  في زراعة أرضه ومساهمته في تحقيق الاكتفاء الغذائي والتصدير أيضاً…

– تنظيم عمليات الريّ بما يخدّم كل الزراعات وعدم ارتباطها بأوقات محددة لأنه حتى الشتاء يحتاجون إلى الريّ في البيوت البلاستيكية والتي تغطي جزءاً كبيراً من مساحة سهل عكار..

– توفير الأسمدة في موعدها, وبالكميات الكافية, وبهذا الصدد قال أحد المزارعين إن مخصصات دونم القمح الواحد من السماد الآزوتي هو (7) كيلو غرامات بينما هو يحتاج إلى (50) كيلو أو أكثر خاصة في الأراضي الجبلية الفقيرة, فكيف يُطلب منّا التحول إلى زراعة القمح ولا نوفر مقومات هذه الزراعة؟

وشددوا على توفير السماد في المواعيد المحددة لاستخدامه حتى لا يقعون ضحية جشع المستغلين!

– زيادة كميات المازوت المخصصة للجرارات الزراعية حتى لا تبقى حجتهم برفع أسعار الفلاحة قائمة..

– تعزيل قنوات الري بعد (أول مطرة) والتي غالباً ما تجرف معها بقايا, وتسبب اختناقات, ما يجعل مياه الأمطار تداهم أراضيهم…

– إنشاء معامل خاصة بإنتاج العبوات الفلينية قريبة من مواقع الإنتاج, وتقدم للفلاحين بأسعار معقولة بعد أن ارتفعت أسعارها كثيراً, والموجع في الموضوع أن (السمسار) يخصم وزن العبوة ولا يدفع ثمنها, أي أن المزارع يدفع في الاتجاهين, سعر العبوة وخصم قيمة وزنها..

أخيراً ..

الفلاح مقاتل حقيقي, وأحد الروافع الأساسية لإعادة بناء بلدنا, ويجب أن يتحول دعمه من القول إلى الفعل, لأن خيره يعمّ على الجميع, وعندما يكون الفلاح بخير يكون الوطن بخير.

غانم محمد

تصفح المزيد..
آخر الأخبار