الوحدة 20-5-2020
يجثم كابوس مزعج على صدور الكثيرين من الأهل مهما بلغت مدى خبرتهم المكتسبة أو الموروثة حيال أسلوب تعاملهم و طريقة تفاعلهم، ولعل المشكلة الحقيقية لا تكمن في الصرامة أو الليونة فالآباء والأمهات ذوو النفوس الطيبة والذين لا يخشون أن يكونوا صارمين عند الضرورة يمكنهم أن يظفروا بنتائج طيبة ومرضية من خلال كلا السببين: الصرامة المعتدلة أو الليونة المعتدلة والتي تتفاوت طُرقها من جيل إلى آخر، ومن ناحية أخرى فإن الصرامة التي تكون وليدة المشاعر القاسية وكذلك الليونة التي تصدر عن خوف أو تردد شديدين يمكن أن تُولد كل منهما أسوأ النتائج، إذاً فالمشكلة الحقيقية تكمن في الروح التي يعالج بها الأهل المواقف التي تُخلق لديهم.
يضع الأبوان مستويات صعبة لتصرفاتهم نحو أبنائهم ويُحسان أحياناً بمشاعر غاضبة نحوهم ولكنهما لا يستطيعان التسليم بأن الأهل الصالحين والناجحين يمكن أن يحملوا مشاعر كهذه، ولعل من وسائل التعبير غير المباشرة هي المبالغة في الوقاية والخجل من الإعراب عن مكنون كل المشاعر المكبوتة في صميم قلوب الأهل وفي حقيقة الأمر يمكن مواجهة الأمور على نحو أجدى وأفضل إذا عُرف أن كل ما يُعانى هو مجرد عارض مؤقت وعابر فقط، ومن المعلوم للغالبية بأن شيئاً من القلق قد يكون مفيداً لبعض الأهل أصحاب الحساسية الضميرية الذين لا ينظرون إلى كل زوايا وجوانب المسؤوليات بجدية ونضوج، ولا يخفى بأن الأبوين الذين يعانين من الشعور المزمن بالغضب تجاه أبنائهما (سواء ظهر أو كُبت) يحملون توتراً عاطفياً حقيقياً يستحق العون والمساعدة والنصح والإرشاد، ولا يظهر عنصر إثارة الغضب في حياة الكثير من الأسر السائرة بيسر غالباً إلا في أثناء الأزمات العارضة وخضم المشاكل العابرة.
بعبارة أخرى فإن الأبناء يحملون بصورة عامة انطباعاً مثالياً مؤداه أن معالم الانشراح والبهجة تغمر قلوبهم لتكون أشد سعادة وأكثر فرحاً وذلك عندما لا يخشى الأبوان من الاعتراف بغضبهما واستيائهما لأن ذلك يعطيهم المبرر لما يحملونه من مشاعر وأحاسيس، وعندما يشعر المرء بأن ما ينتابه من غضب له ما يبرره وحينما ينفس عما في دخيلة نفسه من خلال الاعتراف بذلك فسيخالجه شعور الارتياح والسكينة بكل تأكيد، ومن صميم طبائع الأشياء أن يتضاءل تعلق الابن بأبويه ويبدأ انصرافه إلى العالم الخارجي وانصهاره في مناحي الحياة المختلفة ليصبح أشد استقلالاً وخصوصاً من الوجهة العاطفية والذي يصاحبها مرحلة انقلاب دراماتيكي في المشاعر نحو الجميع، ويتولد لديه في المستقبل من الحب ما يكرسه للأبناء أيضاً وللإنسانية جمعاء.
ينتمي الأبوان اللذان تُربكهما النظريات الجديدة أحياناً إلى فئتين فهناك أولاً الذين نشؤوا على ضعف الثقة بأنفسهم وبحكمهم الخاص والغريب على الأمور وهؤلاء لا بد لهم من اتباع آراء الغير طوعاً، وأما الفئة الثانية فتتألف من أولئك الذين يشعرون أنهم نشؤوا نشأة صارمة ويذكرون ما كانوا يُحسونه أحياناً من حالات الاستياء من آبائهم وأمهاتهم ولا يريدون أن يتكرر ذلك الشعور مع أولادهم وهذا الأمر يدعو إلى اقتفاء أثر نموذج معين للحيلولة دون فلتان زمام الأمر من أيدي الأبوين، ولعل السبب الذي مكن الغالبية من النجاح في تربية أولادهم خلال الفترة الزمنية الماضية التي طرأت خلالها تغييرات كبيرة على المفاهيم التربوية والاجتماعية والمعيشية هو أنهم نشؤوا بأجواء سعيدة نسبياً وبالتالي كانوا يُؤثِرون تربية أولادهم بنفس الطريقة مع مراعاة عدم المبالغة في تطبيق أي نظرية جديدة أو فكرة مبتكرة وهذا هو بالضبط ما مكن سائر المجتمعات الحضارية من البقاء والاستمرار من جيل إلى جيل في وجه عوادي الزمان، ومن الواجب إعادة النظر في عدد من الاعتقادات السائدة ومن أهمها هي أن مهمة العناية بالأولاد ليست محصورة بالأم وحدها فيمكن للأب أن يكون رجلاً حقيقياً وأباً ودوداً وصديقاً مقرباً ورُباناً لسفينة عائلته في آن واحد معاً لكل أولاده، و أن يترك أثراً عميقاً في روحهم المعنوية وطبائعهم الشتى و سلوكهم المتنوع ليلازمهم طيلة حياتهم.
د. بشار عيسى