الوحدة – نعمان أصلان
تحولات كثيرة طرأت على الاقتصاد السوري منذ عام إلى اليوم طالت كل الجوانب الاقتصادية وشهدت فيها البلاد تحسناً ملحوظاً، وللوقوف أكثر على هذه التطورات كان لجريدة الوحدة اللقاء مع اأ.د عماد الدين المصبح أكاديمي سوري في كلية الشرق العربي للدراسات العليا في السعودية، والذي حدثنا قائلاً: منذ التحرر من سلطة نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024، دخل الاقتصاد السوري مرحلةً مختلفةً جذرياً عن مرحلة اقتصاد الحرب والفساد الممأسس، ورغم استمرار العقوبات الاقتصادية ولاسيما قانون قيصر الذي جرى تخفيفه تدريجياً (والمأمول إلغاؤه نهائياً خلال الأسابيع القادمة إن شاء الله)، أمكن رصد مجموعة من الإنجازات الاقتصادية البارزة التي ترسم ملامح سوريا جديدة أكثر انفتاحاً وكفاءة وعدالة.
وتابع: أهم إنجاز استراتيجي يتجاوز الأرقام والمؤشرات المباشرة هو التحول في طريقة تعامل العالم مع الدولة السورية، فقد انتقلت سوريا خلال عام واحد فقط من كونها جزءاً مركزياً في ما كان يُسمّى “محور الشر” إلى شريك محتمل للغرب في ملفات الاستقرار الإقليمي، والطاقة، وإعادة الإعمار، ومكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية، هذا التحول السياسي تُرجم اقتصادياً عبر مسارين متوازيين الأول هو بدء تفكيك تدريجي للعقوبات المزمنة، خاصة تلك المرتبطة بجرائم نظام الأسد ضد الشعب السوري، مع الإبقاء على عقوبات فردية موجهة ضد رموز الفساد والانتهاكات، لا ضد الاقتصاد الوطني، والثاني هو انفتاح ملموس من قبل شركات ومستثمرين وصناديق استثمارية من أوروبا وأمريكا وآسيا والخليج بدأت تستكشف بجدية فرص الاستثمار في قطاعات البنية التحتية، والطاقة المتجددة، والزراعة الحديثة، وتكنولوجيا المعلومات، والخدمات اللوجستية، بهذا المعنى، لم تعد سوريا “حالة أمنية” يُراد احتواؤها، بل أصبحت مشروعاً اقتصادياً واستثمارياً دولياً، مع كل ما يعنيه ذلك من تدفق رؤوس الأموال والتكنولوجيا والخبرات خلال السنوات القادمة.
وأضاف الدكتور المصبح: التحول الأعمق ربما ليس في الأرقام، بل في طريقة التفكير بالشأن الاقتصادي السوري، فبعد عقود من اقتصاد حرب واقتصاد “حر” مشوّه خُصص عملياً لخدمة تراكم رأس المال في يد العائلة الحاكمة ومحيطها الضيق، جرى الانتقال إلى نموذج اقتصاد حر ليبرالي بغطاء إسلامي أخلاقي تأشيري، هذا النموذج يقوم على الإقرار بحرية السوق والمنافسة والملكية الخاصة، لكن ضمن إطار أخلاقي يرفض الاحتكار، ويجرّم استغلال النفوذ السياسي لتحقيق مكاسب اقتصادية، وفي هذا الإطار الجديد يتركز دور الدولة في “وضع القواعد والتحكيم” لا في مزاحمة القطاع الخاص، دولة منظمة، لا دولة تاجر أو متعهد، هذا التحول الفكري خلق مناخاً جديداً عماده اقتصاد منفتح، عالي الربحية لمن يعمل فيه، لكنه في الوقت نفسه محكوم بضوابط شفافية ومساءلة، وهو ما يشكل عامل جذب إضافياً للمستثمرين الذين يبحثون عن بيئة ربحية مستدامة لا مغامرات قصيرة الأجل.
وعلى الصعيد النقدي، قال المصبح: يُسجَّل للبنك المركزي السوري في المرحلة الجديدة أنه استعاد دوره كمؤسسة مهنية مستقلة نسبياً، بعد أن كان لعقود أداة في يد السلطة السياسية والأمنية، فقد باتت السياسة النقدية تُدار من قبل حاكم ومجلس نقد وتسليف يتمتعان بهامش استقلال حقيقي، مع شراكة مؤسسية في رسم وتنفيذ السياسة المالية، وقد انعكس ذلك في وقف النزيف المزمن في قيمة الليرة السورية، والانتقال إلى مسار استقرار نسبي في سعر الصرف عبر مزيج من أدوات السياسة النقدية كسعر الفائدة، وإدارة السيولة، وتنظيم سوق القطع، بالإضافة إلى إجراءات هيكلية في قطاع المصارف، هذا الاستقرار رافقه الحفاظ على القوة الشرائية لليرة من خلال استهداف معدلات تضخم معتدلة، وربط التوسع في الكتلة النقدية بالنشاط الحقيقي في الاقتصاد لا بتمويل العجز السياسي، والنتيجة الأبرز كانت إعادة “الثعبان” – أي التضخم المنفلت – إلى النفق، باستخدام تعبير اتفاقية ماستريخت الشهيرة في مطلع تسعينيات القرن الماضي؛ أي جعل التضخم ظاهرة مُدارة ومراقَبة، لا قوة مدمرة تعصف بالادخار والاستثمار والأجور، هذه الاستقلالية النسبية للسياسة النقدية أعادت الثقة للمواطن والمستثمر معاً، ووضعت أساساً لقطاع مصرفي قادر على تمويل إعادة الإعمار والنمو، لا مجرد طباعة نقود لتمويل العجز.
بهذه الإنجازات – التحول في الموقع الدولي، والانقلاب الفكري من اقتصاد حرب إلى اقتصاد حر أخلاقي، واستعادة مركزية واستقلالية السياسة النقدية – يمكن القول إن سوريا الجديدة وضعت الأسس لمرحلة تعاف اقتصادي حقيقي، الإنجاز الأكبر ربما ليس ما تحقق حتى الآن، بل ما أصبح ممكناً، وما يلوح في أفق السنوات القادمة من فرص نمو واستثمار تعود فائدتها على من يعمل ويغامر ويبني، لا على من يحتكر ويفسد ويدمّر.